مارس يُعيد رسم ملامح الأسواق، نظرة على مستقبل الاقتصاد العالمي
شهد شهر مارس العديد من التطورات سواء على الناحية الاقتصادية أو السياسية، وكنا قد أوضحنا أن شهر مارس سيعد نقطة فاصلة في مسار الأسواق لما يحمله من أحداث هامة ومحورية.وقد جاءت تلك التطورات لتضع الأسواق العالمية أمام مشهد جديد. ولأهمية الأحداث الأخيرة ودورها في رسم ملامح الاقتصاد العالمي من جديد، يُلقي هذا التقرير الضوء على أبرز المحطات التي مرت بها الأسواق طوال الشهر وتداعياتها على المسار المستقبلي
الدولار الأمريكي
كان الدولار الأمريكي محور اهتمام الأسواق خلال شهر مارس، ولم تعد الأحداث الاقتصادية هي المحرك الحصري لتحركات الدولار وإنما أصبحت تطورات المشهد السياسي ذات التأثير الأقوى على العملة. وقد توالت الأحداث الأمريكية على مدار الشهر لتدفع بالدولار إلى تخبط واضح في الوقت الذي بقيت فيه الأسواق حائرة حول مستقبل البلاد في عهد الإدارة الحالية. في البداية، تلقى الدولار دعماً منقطع النظير مع تعزيز الأسواق لإحتمالات رفع الفائدة، إلى أن أقدم الفيدرالي بالفعل على تلك الخطوة خلال اجتماعه الأخير. وعلى عكس المتوقع، سجل الدولار انخفاضات حادة جعلت الأسواق تقف عاجزة عن تفسيرها. فكيف تراجع الدولار بالرغم من رفع الفائدة؟! في واقع الأمر، لم يكن للفيدرالي الأمريكي دخل كبير في هذه الانخفاضات، بل كان لارتفاع حالة عدم اليقين السياسي الدور الأكبر وراء تراجع الدولار بهذا النحو المفاجئ. فقد احتفظ الفيدرالي الأمريكي بتطلعات الوضع الاقتصادي وعدد مرات رفع الفائدة دون تغيير، مما استقبلته الأسواق بأنه انعكاساً لحالة الغموض التي فرضتها الإدارة الأمريكية على المستقبل الاقتصادي للبلاد. على الجانب الأخر، استمر تأزم المشهد السياسي يوماً تلو الأخر. فقد تعاقبت التحديات أمام إدارة ترامب والتي واجهت العديد من الصعاب في تنفيذ وعودها إلى الشعب الأمريكي، والتي انتهت بصراعها مع السلطات التشريعية للحصول على الموافقة لإلغاء برنامج أوباما كير. وجاءت تلك التوترات لتضع الحكومة الأمريكية في مأزق حقيقي قد يقودها إلى خسارة شعبيتها الحالية. ومن هنا أصبح غموض المستقبل الأمريكي في تزايد كل يوم واضعاً المزيد من الأعباء على الدولار. ومازالت الأسواق تعلق آمالها على استقرار المشهد الأمريكية خلال الفترة القادمة تزامناً مع استمرار تحسن الأداء الاقتصادي بالشكل الكافي لاستعادة الثقة من جديد في قوة الاقتصاد الأمريكي.
أهم ما جاء في بيان الفائدة الصادر عن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي - 15 مارس
أهم تصريحات جانيت يلين، محافظ الفيدرالي الأمريكي خلال المؤتمر الصحفي - 15 مارس
- أربعة أسباب وراء انخفاضات الدولار بالرغم من رفع الفائدة
لماذا انقلبت الأوضاع العالمية ضد الدولار الأمريكي!
إلى أي مدى قد يحتدم الصدام بين ترامب ويلين!
إدارة ترامب تستمر في التخبط و الدولار يدفع الثمن
الاقتصاد الأمريكي في طريقه إلى الازدهار من جديد، ولكن!
اليورو
تمكن اليورو من التعافي بشكل ملحوظ على مدار شهر مارس مدعوماً بارتفاعات التضخم الأخيرة في منطقة اليورو، كما تلقى المزيد من الدعم بعد أن تواردت بعض التسريبات عن مناقشة لجنة البنك المركزي الأوروبي لإمكانية رفع الفائدة على الودائع هذا العام خلال اجتماعها الأخير. وكان المركزي الأوروبي قد واصل الإبقاء على مجريات السياسة التسهيلية دون تغيير خلال اجتماع مارس، مؤكداً على استعداده للتدخل من خلال زيادة حجم برنامج التيسير أو مد فترته إلى ما بعد نهاية العام إن اقتضى الوضع الاقتصادي ذلك أو ساءت التطلعات عن المستويات الحالية. جاء ذلك قبل أن يعود توتر المشهد السياسي بعدد من بلدان المنطقة الأوروبية ليعيد الضغوط الهبوطية على اليورو من جديد، فضلاً عن مفاوضات الخروج البريطاني من الإتحاد الأوروبي والتي أثقلت على تطلعات المنطقة. فبعد أن أظهرت النتائج الأولية تقدم الحزب الليبرالي في الانتخابات التشريعية الهولندية، تتصاعد المخاوف حول المستقبل الفرنسي خاصة مع تزايد فرص فوز مرشحة اليمين المتطرف مارين لو بين، والتي أعلنت عن نيتها في عقد استفتاء على عضوية الإتحاد الأوروبي فور توليها السلطة. الأمر الذي جعل الأسواق تراقب بحذر تطورات المشهد الأوروبي مع توالي التهديدات لوحدة واستمرار المنطقة. ومع سيطرة الأحداث الاقتصادية على المشهد الأوروبي، فمن المتوقع أن تكون تحركات اليورو خلال الشهور القادمة أكثر خضوعاً لتطورات الوضع السياسي أكثر من سياسات المركزي الأوروبي، خاصة مع تأكيد عدد من صناع القرار على استمرار السياسة التسهيلية خلال العام الجاري ونفي إمكانية رفع الفائدة.
الجنيه الاسترليني
انقلب المشهد البريطاني في أعقاب الاستفتاء على عضوية الإتحاد الأوروبي في يونيو من العام الماضي. فبعد أن كانت السياسة النقدية لبنك إنجلترا تميل إلى خفض الفائدة من جديد لاحتواء المخاطر الناجمة عن الخروج من الإتحاد الأوروبي، أصبحت الأسواق توجه توقعاتها نحو رفع الفائدة. جاء هذا على خلفية ارتفاعات التضخم بوتيرة متسارعة على مدار الشهور الأخيرة كنتيجة مباشرة لتهاوي قيمة العملة في أعقاب الاستفتاء. الأمر الذي عزز من فرص رفع الفائدة للسيطرة على ارتفاعات التضخم. وكان البنك قد أعرب عن استعداده للتهاون في تجاوز التضخم للهدف 2%، مع التشديد بأن التهاون سيكون محدوداً. وبعد الإبقاء على إطار السياسة الحالية دون تغيير خلال اجتماع مارس، أشار البنك أن مسار السياسة النقدية خلال الفترة القادمة سوف يعتمد على تطورات الوضع الاقتصادي مؤكداً على استعداده للاستجابة لتلك التطورات إن لزم الأمر. ولكن على غرار الدولار واليورو، لم تكن الأوضاع الاقتصادية ذات التأثير الأقوى على حركة العملة. فقد تباينت حركة الاسترليني تأثراً بتوتر الحياة السياسية وخاصة دخول البلاد مرحلة التفاوض مع الإتحاد الأوروبي للانفصال بشكلٍ رسمي. ولا تزال الشكوك تُحاصر قدرة الطرفين على التوصل لاتفاق يضمن لكليهما الحفاظ على المصالح التجارية والاقتصادية. الأمر الذي تسبب في الإثقال على تداولات الاسترليني ليتخلى عن بعض المكاسب التي نجح في تحقيقها مستفيداً من تزايد توقعات رفع الفائدة. لذلك فإن تطورات المشهد السياسي وبالتحديد مجريات عملية التفاوض سيكون لها التأثير الأبرز على حركة الاسترليني خلال الفترات القادمة.
الين الياباني
استمر تأكيد بنك اليابان على ملائمة السياسات الحالية للدفع بمعدلات التضخم إلى المستويات المستهدفة. وقد أوضح البنك خلال اجتماعيه لهذا العام بأن الأوضاع العالمية تمثل مخاطر هبوطية على النشاط الاقتصادي، لذلك من المستبعد أن يصل التضخم إلى الهدف قبل مطلع العام 2018. وعليه، شدد البنك على استمرار العمل بالسياسة التسهيلية لحين تحقيق هدف التضخم عند 2%، ولن يتم التخلي عنها قبل ذلك. كان بنك اليابان قد أدخل بعض التعديلات على إطار عمل السياسة النقدية بنهاية 2016 بهدف تقديم الدعم اللازم لارتفاع التضخم صوب الهدف. تضمنت تلك التعديلات التحكم في منحنى العائد لضمان استقراره عند المستويات الصفرية، مضاعفة حجم المشتريات من صناديق المؤشرات، مشتريات الأوراق المالية وسندات الشركات. كما قام البنك بمضاعفة معدلات الإقراض بالدولار الأمريكي. جاء هذا في الوقت الذي ارتفعت فيه مخاوف فشل التضخم في استهداف المستويات المرجوة. وعلى الرغم من اقتناع البنك التام بقدرة السياسة الحالية على دعم ارتفاع التضخم صوب الهدف، إلا أنه لايزال يُبدي كامل الاستعداد للتدخل من جديد إن لزم الأمر. ولكن مازالت توقعات الأسواق تصب في صالح التزام البنك بسياسته الحالية دون تغيير خلال العام الجاري. وكعملة ملاذ آمن، استفاد الين من توتر الأوضاع العالمية مسجلاً ارتفاعات حادة وخاصة أمام الدولار الأمريكي. وقد تستمر تلك الارتفاعات إن لم تتمكن الأوضاع العالمية من استعادة استقرارها من جديد.
الدولار الكندي
كغالبية البنوك المركزية، أبقى بنك كندا من جديد على معدلات الفائدة دون تغيير خلال اجتماع مارس عند النسبة 0.50%. وقد عكس بيان الفائدة الأخير استمرار النبرة الحذرة للبنك والذي أكد مرة جديدة على وجود حالة من الضعف في الأداء الاقتصادي العام. على الجانب الأخر، أشاد البنك بالتعافي الأخير الذي سجلته مستويات التضخم بدعم من ارتفاع أسعار الطاقة خلال الآونة الأخيرة، مُعرباً عن رغبته في التأكد من مدى استدامة هذا الارتفاع. بشكل مجمل جاءت نبرة البنك محايدة حول التطورات الأخيرة. ويأتي الاقتصاد الكندي في مقدمة اقتصادات العالم التي تترقب بحذر تداعيات سياسة ترامب على الاقتصاد العالمي، حيث تعتبر الولايات المتحدة أكبر الشركاء التجاريين لكندا. لذلك سيكون الاقتصاد الكندي الأكثر عُرضة لتغيرات السياسة الأمريكية. وتبقى تطلعات السياسة النقدية بكندا محايدة في الوقت الراهن حتى تكوين صورة أوضح عن السياسات الأمريكية.
الدولار الاسترالي
نجح استقرار الأوضاع المحلية مؤخراً في إضعاف توقعات لجوء الاحتياطي الاسترالي من جديد إلى خفض خلال الشهور القادمة، بالرغم من هذا الخيار سيظل مطروحاً. يرجع ذلك إلى استمرار تباين المؤشرات الاقتصادية فضلاً عن تزايد حدة الغموض العالمي وهو ما قد يثقل على تعافي النمو. وقد أكد البنك خلال اجتماعه الأخير بأن السياسة الحالية لاتزال ملائمة لدعم ارتفاع التضخم باتجاه الهدف وتحفيز النمو الاقتصادي العام. وعن قيمة العملة، أوضح البنك أن ارتفاعات الدولار الاسترالي الأخيرة قد تقف عائقاً أمام تعافي الاقتصاد بشكل كامل مشدداً على ضرورة تراجعه إلى المستويات المستهدفة تجارياً. أما من جانبه، فلم يبد البنك استعداده لاستخدام السياسة بهدف إضعاف قيمة العملة من جديد. وكان البنك قد أشاد بارتفاع أسعار السلع العالمية خلال الفترات الأخيرة ومساهمتها في دعم مستويات النمو والتضخم العالمي في التعافي من جديد. ويظل الموقف الحيادي مسيطراً على مسار السياسة النقدية في انتظار ما ستؤول إليه الأوضاع العالمية، وخاصة الصينية. فإن الأسواق تتابع بحذر مجريات الوضع الصيني لما لها من تأثير قوي على النشاط التجاري الاسترالي. وسيكون الاقتصاد الاسترالي كغيره من الاقتصادات الناشئة عُرضة لتطورات الوضع العالمي ومدى استقرار حالة الغموض العالمية خلال الفترات المقبلة.
الدولار النيوزلندي
التزم الاحتياطي النيوزلندي الحياد خلال اجتماع مارس مؤكداً على ملائمة السياسات الراهنة للوضع الاقتصادي. وبالرغم من عدم إتخاذ أية قرارات جديدة، إلا أن استمرار النبرة الإيجابية للبنك حول تطورات الوضع الاقتصادي مؤخراً ساهمت في احتفاظ الأسواق بتوقعات رفع الفائدة. وكان البنك قد أشاد بارتفاعات التضخم خلال الفترة الأخيرة ونجاحه في الاستقرار بين النطاق المتوقع ما بين 1% و 3% بدعم من تعافي أسعار السلع على الصعيد العالمي. ولعل الجانب الأكثر إيجابية كان التأكيد على انخفاض القيمة التجارية للعملة بما يزيد عن 4% منذ فبراير الماضي، مما يشكل دعماً للنمو الاقتصادي. وفي حين أن البنك أعرب عن رغيته في رؤية المزيد من التراجع إلا أنه لم يُعلن أية استعداد للتدخل بهدف إضعاف قيمة العملة كما عهدنا. الأمر الذي قدم المزيد من الدعم لإحتمالات اتجاه البنك إلى رفع الفائدة من جديد إن استمرت ارتفاعات التضخم مصحوبة بتحسن الأداء الاقتصادي العام.
الفرنك السويسري
أبقى البنك الوطني السويسري على سياسته النقدية دون تغيير خلال اجتماع مارس، مع التأكيد على ملائمة السياسة النقدية الحالية لاستهداف استقرار مستوى الأسعار ودعم النشاط الاقتصادي. بذلك يكون الوطني السويسري قد أبقى على معدل الفائدة ضمن النطاق السلبي وتحديداً عند -0.75% منذ يناير من العام 2015. وقد أوضح البنك أن معدلات الفائدة المنخفضة قد ساهمت في تقليص الضغوط على الفرنك السويسري حيث جعلته أقل جاذبية للمستثمرين مقارنة بالعملات الأخرى ذات العائد المرتفع. وقد اتسمت نبرة البنك بالتفاؤل حيال تطلعات الوضع الاقتصادي. ومن جديد، شدد البنك على ارتفاع قيمة الفرنك عن المستويات المستهدفة بنحوٍ غير مبرر، مع التأكيد على استعداده للتدخل والحد من ارتفاعات الفرنك القوية والتي قد تضر بالمصالح التجارية للاقتصاد السويسري. على الرغم من هذا، لايزال من المتوقع أن يستمر موقف الوطني السويسري دون تغيير خلال العام. وعلى الأرجح قد يتهاون البنك في ارتفاعات الفرنك أمام اليورو بصفة استثنائية. يرجع ذلك إلى عدد من الأسباب الرئيسية أهمها نجاح الاقتصاد السويسري مؤخراً في التأقلم مع التطورات الأخيرة، إضافةً إلى حقيقة أن جزء كبير من ارتفاعات الفرنك يعود بشكل أساسي إلى تراجع اليورو في الأساس. فإذا قمنا بالمقارنة، نجد أن قيمة الفرنك مستقرة إلى حدٍ كبير أمام الدولار الأمريكي. لذا، فإن عوامل ارتفاع الفرنك أمام اليورو قد تكون خارجة عن سيطرة الوطني السويسري، ويصعب التحكم بها من خلال السياسة النقدية أو حتى التدخل المباشر في الأسواق.
اقرأ أيضاً:
-
لماذا طغت الأحداث السياسية على دور البنوك المركزية في التأثير على الأسواق؟
- الفائدة السلبية.. سلاح ذو حدين يتحكم في مصير اقتصادات العالم!
قسم أبحاث السوق
المتداول العربي