نظرة على تاريخ بيانات التوظيف الأمريكية..لماذا لم تنهَر الأسواق بعد الفشل الحاد؟
في إبريل 2020 أثناء معمعة وباء كورونا جاءت نتائج تقرير التوظيف عن مارس مفاجئة حيث فقدت الولايات المتحدة 701 ألف وظيفة فيما توقعت الأسواق أن يفقد الاقتصاد الأكبر عالميًا 100 ألف وظيفة فقط وفي مايو توقع الخبراء هذه المرة أن يأتي تقرير إبريل بخسارة 22 مليون وظيفة وهو ما لم يحدث حيث فقد الاقتصاد الأمريكي 20.5 مليون وظيفة فقط ويبدو أن كل ما يعيشه الاقتصاد الأمريكي من وقتها وحتى الآن هو نتاج لهذه اللحظة الدقيقة تاريخيًا، اللحظة التي استدعت ما يسمى باقتصاد كورنا (اقتصاد الوباء) حيث أغرق الفيدرالي الأسواق بمليارات الدولارات خوفًا من انهيار الاقتصاد، الاقتصاد الذي لم ينهار ولكنه تضخم في كل الأنحاء بشكل أكبر مما توقعه الفيدرالي، الأمر الذي دفع الفيدرالي للتشديد النقدي بعد بيانات تضخمية وتوظيفية مُخيفة للمستقبل الاقتصادي الأمريكي. في هذه الأثناء كانت بيانات التوظيف والتضخم هي أمر ما ينظر إليه شهر بعد شهر ولسان باول أهم ما يُسمع في المجتمعات الاقتصادية (بالطبع إلى جانب لاجارد وكازو أويدا وغيرهم من رؤساء البنوك المركزية).
اليوم صدرت بيانات التوظيف لشهر أكتوبر وجاءت سلبية للغاية وأقل بنسبة 90% من التوقعات حيث أضاف الاقتصاد الأمريكي 12 ألف وظيفة فقط في الوقت الذي توقعات فيه الأسواق إضافة 106 ألف وظيفة. إلا أن ورغم هول الصدمة لم تتأثر الأسواق بشكل كافي فلم يصعد الدولار بجنون ولم تهبط الأسواق أو ترتفع بشكل كافي وهو الأمر الذي يدفعنا للتعمق في هذه الأرقام وإذا ما كانت الأسواق في حالة صدمة أم أنها توقعت الهبوط ولا تراه سلبيًا بالطريقة ذاتها التي تبدو عليها الأرقام.
هل لا يحب الأمريكان التوظيف في أكتوبر؟
فحصنا بيانات التوظيف لأكتوبر منذ 2016 ووجدنا أنها في 4 من 9 مناسبات جاءت أقل من المتوقع مما ينفي هذه الحجة فالأمر لا يعود إلى شيء موسمي أو شهية لأصحاب الشركات في هذا الوقت من العام بشكل مستمر.
بل إن الحقيقة أن الاقتصاد الأمريكي وبيانات التوظيف بشكل عام لم تشهد صدمة مشابهة لبيانات اليوم إلا في مناسبات محدودة منها مثلًا تقرير مارس 2017 عندما أضاف الاقتصاد 79 ألف (بعد التنقيح السلبية) وظيفة في حين توقع السوق إضافة 180 ألف وظيفة، الأمر الي جاء بشكل أغنف في بيانات سبتمبر 2017 عندما حذف الاقتصاد الأمريكي 33 ألف وظيفة في حين توقع الخبراء إضافة 90 ألف وظيفة. تكرر الأمر بشكل أهدأ في بيانات فبراير 2009 عندما أضاف الاقتصاد 20 ألف وظيفة في الوقت الذي توقعت فيه الأسواق 181 ألف وظيفة وتكرر الأمر من جديد في بيانات مايو 2019 عند إضافة 72 ألف وظيفة في حين كانت التوقعات 185 ألف وظيفة.
إلا أن الواقعة الأكثر كارثية وتفاوتًا بين التوقعات والبيانات في العشر سنوات الأخيرة كانت في زمن اقتصاد كورونا عندما فقدت أمريكا 701 ألف وظيفة في حين توقعت الأقواء إزالة 100 في مارس 2020. هذا قبل أكبر رقم شهدته بيانات التوظيف في إبريل 2020 عندما حذف الاقتصاد الأمريكي 20.5 مليون وظيفة.
وفي كل هذه المناسبات كانت الصدمة مرتبطة بأحداث اقتصادية أو ظرفية هامة ومعروفة تمامًا مثل أكتوبر 2024.
ما الذي حدث في أكتوبر 2024؟
المراجعات هي التي يجب أن تقلقك. أعلن مكتب إحصاءات العمل الأميركي يوم الأربعاء أن الاقتصاد الأميركي أضاف 818,000 وظيفة أقل من التقديرات السابقة خلال الفترة من أبريل 2023 إلى مارس 2024، وهو ما يعادل تراجعًا بنسبة 30% عن التقرير الأولي الذي سجل إضافة 2.9 مليون وظيفة.
يعد هذا التعديل الأكبر في بيانات الوظائف منذ عام 2009، إذ بلغت نسبة التغيير الإجمالية -0.5%. تأتي هذه التعديلات في إطار المراجعات السنوية المعتادة للرواتب غير الزراعية، حيث يعتمد المكتب على نتائج تعداد التوظيف والأجور ربع السنوي لتحديث البيانات بدقة. وتترقب وول ستريت هذه التعديلات السنوية نظرًا لتأثيرها الكبير على تقييم الاقتصاد.
تشير الأرقام الجديدة إلى متوسط نمو شهري قدره 174,000 وظيفة خلال الفترة، مقارنةً بـ 242,000 وظيفة في التقديرات الأولية. ومع أن البيانات المعدلة لا تزال تشير إلى إضافة أكثر من مليوني وظيفة، فإن هذا الانخفاض قد يدل على ضعف سوق العمل بشكل أكبر مما أظهرته التقارير السابقة، ما قد يشجع الاحتياطي الفيدرالي على البدء بخفض أسعار الفائدة.
رأي الاقتصاديين حول سوق العمل
قال جيفري روتش، كبير الاقتصاديين في مؤسسة LPL المالية، "يبدو أن سوق العمل أضعف مما ورد سابقًا. هذا التدهور في سوق العمل قد يعطي الاحتياطي الفيدرالي الفرصة للتطرق إلى كلا جوانب الهدف المزدوج، حيث يجب أن يتوقع المستثمرون أن يبدأ الاحتياطي الفيدرالي في الإعداد لخفض أسعار الفائدة في اجتماع سبتمبر."
القطاعات المتضررة والرابحة
تضمنت المراجعات الكبرى خفضًا في قطاع الخدمات المهنية والأعمال بنحو 358,000 وظيفة، وفي قطاع الترفيه والضيافة بمقدار 150,000 وظيفة، وفي قطاع التصنيع بنحو 115,000 وظيفة، وفي قطاع التجارة والنقل والمرافق بنحو 104,000 وظيفة. ضمن قطاع التجارة، شهد قطاع التجزئة تحديدًا خفضًا بمقدار 129,000 وظيفة.
أما القطاعات التي شهدت زيادات، فقد تضمنت قطاع التعليم الخاص والخدمات الصحية (87,000 وظيفة)، وقطاع النقل والتخزين (56,400 وظيفة)، والخدمات الأخرى (21,000 وظيفة). بينما لم يشهد قطاع الوظائف الحكومية تغييرات تذكر، حيث ارتفع بمقدار 1,000 وظيفة فقط بعد التعديلات.
بلغ عدد الوظائف غير الزراعية 158.7 مليون وظيفة حتى يوليو 2024، بزيادة قدرها 1.6% عن نفس الشهر من العام السابق. ومع ذلك، تزايدت المخاوف من تراجع في سوق العمل، حيث ارتفع معدل البطالة إلى 4.3%، بزيادة 0.8 نقطة مئوية من أدنى مستوى خلال 12 شهرًا، مما أطلق تحذيرًا اقتصاديًا يُعرف بـ"قاعدة سهام"، الذي يشير عادة إلى ركود اقتصادي.
ومع ذلك، يعود الكثير من هذا الارتفاع في معدل البطالة إلى زيادة عدد الأشخاص الذين يعودون إلى القوى العاملة، بدلاً من زيادة ملحوظة في حالات التسريح.
ردود الفعل الاقتصادية وآراء المحللين
علق جارد بيرنشتاين، الاقتصادي في البيت الأبيض، قائلاً: "لا يغير هذا التقدير الأولي حقيقة أن تعافي سوق العمل كان وما زال قويًا تاريخيًا، حيث سجلت السوق مكاسب قوية في الأجور، وإنفاقًا استهلاكيًا قويًا، ومستويات قياسية في إنشاء الأعمال الصغيرة."
ورغم ذلك، أشار محللو غولدمان ساكس (NYSE:GS) في تقرير لاحق إلى اعتقادهم بأن مكتب إحصاءات العمل قد يكون بالغ في تقدير هذه التعديلات بنحو نصف مليون وظيفة، حيث يعتقدون أن العمال غير الموثقين الذين لا يظهرون في النظام قد تم احتسابهم كوظائف مضافة في البداية، مما قد يفسر جزءًا من هذا التفاوت.
وفي ظل هذا المشهد، يراقب مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي وضع سوق العمل عن كثب، مع توقعات بخفض أول لأسعار الفائدة خلال أربع سنوات في اجتماع سبتمبر المقبل. ومن المقرر أن يلقي جيروم باول، رئيس الاحتياطي الفيدرالي، خطابًا مهمًا في تجمع الفيدرالي السنوي في جاكسون هول بولاية وايومنغ يوم الجمعة، حيث قد يمهد الطريق لسياسة نقدية أسهل في المستقبل.