باريس بين جدل الافتتاح والخسائر المالية..ما الذي تجنيه الدول المستضيفة للأولمبياد؟

باريس بين جدل الافتتاح والخسائر المالية..ما الذي تجنيه الدول المستضيفة للأولمبياد؟
فرنسا

في مدينة الأضواء الأوروبية، باريس، يُعقد أسمى وأشمل حدث رياضي عالمي، وسط مناخ سياسي مضطرب وانقسام اجتماعي أججته رمزيات افتتاحية الأولمبياد 2024 لتكتب فصل جديد في معاداة اليمين الفرنسي للرئيس الحالي، إيمانويل ماكرون.

إلا أن زاوية أخرى غير الافتتاح والنيوليبرالية وصحوة مجتمع الميم، وهي الناحية الاقتصادية والكلفة المالية لهذا الحدث الضخم والاستفادة المتحققة من ورائه، فبعد انتهاء الجدل وتوزيع الميداليات يخلو البوديوم وتنطفئ شعلة الأولمبياد ولا تترك إلا سجلات مالية مختلة بفعل العجز المالي. 

عندما تتلاشى الأضواء..لا تبقَ إلا الحقيقة

أولمبياد باريس - رويترز
 

تُعد استضافة دورة الأولمبياد والألعاب البارالمبية إنجازًا في حد ذاته على كافة الأنحاء إلا الناحية الاقتصادية، حيث بات من المعروف أن الكلفة الاقتصادية لهذا الإنجاز باهظة ولا يتم استردادها بشكل مادي حقيقي.

وتشوّهت القيمة المادية الخاصة لاستضافة هذا الحدث نتيجة تجارب كثيرة من الخسائر التي لحقت بأمم استضافت الأحداث الرياضية الكبرى مثل الأولمبياد أو كأس العالم. ولا تزال بعض الدول المستضيفة منذ سنوات تسدد فاتورة الديون طويلة الأجل التي اقترضتها من أجل الإعداد لهذا الحدث إضافي إلى التغييرات الشاملة في البنية التحتية المهدرة وبعض الأضرار البيئية.

وتدرك اللجنة الأولمبية أن عليها المساهمة في بناء نماذج أقل كلفة وأكثر استدامة كي تحظى دائمًا البطولة بالاستضافة المأمولة والتصارع عليها عوضًا عن التحوّل إلى تركة ثقيلة لا يريدها أحد أو تستأثر بها بعض الدول دون غيرها. 

وتأمل اللجنة الأولمبية الدولية في تصحيح المسار، بدءاً من ألعاب باريس: تهدف المنظمة الرياضية غير الحكومية إلى اتباع نهج أكثر اقتصاداً وأكثر مراعاة للبيئة مقارنة بالسنوات الماضية.

يقول فيكتور ماثيسون، أستاذ الاقتصاد في كلية الصليب المقدس الذي أجرى أبحاثاً حول التكاليف المالية للألعاب الأولمبية: ”ستكون هذه أول دورة أولمبية منذ دورة سيدني حيث ستقل التكاليف الإجمالية عن 10 مليارات دولار“.

وأضاف: ”ذلك لأن اللجنة الأولمبية الدولية بدأت تنفد من المدن الراغبة في استضافة هذا الحدث“. ”لقد أصبح من الواضح جداً للمدن أنه - في ظل النظام القديم - كانت هذه الدورات بمثابة كارثة مالية حقيقية للمدن المعنية، ومكلفة للغاية مع أمل ضئيل في استرداد الأموال على المدى الطويل.“

ومع ذلك، يجادل بعض الاقتصاديين والباحثين بأن الألعاب الأولمبية المستدامة حقاً يجب أن تبدو مختلفة كثيراً عن الألعاب التي نعرفها اليوم.

الخوف من الماضي

في الماضي شهدت الأولمبياد العديد من الأحداث المأسوية والعنيفة في عاميّ 1968 و1972 في مكسيكو سيتي وميونيخ، ثم أعقبتهم دورة الألعاب الأولمبية في مونتريال 1976 والتي اشتهرت بالتجاوزات الكبيرة في التكاليف لتضيق سحر وجاذبية استضافة الأولمبياد وقد أتى عام 1984 وليس هناك إلا عدد ضئيل من المدن تريد استضافته. ونجحت لوس أنجلوس في استضافة الألعاب الأولمبية لعام 1984 بعد انسحاب طهران. 

وأعادت لوس أنجلوس رونق وجاذبية الحدث بشكل حقيقي حيث نجحت اعتمادًا على البنية التحتية الموجودة بالفعل والحصول على رعايات تجارية مختفة وحقوق بث مرتفعة في إنهاء البطولة بفائد ربح 215 مليون دولار.

وكتب زيمباليست في كتابه "Circus Maximus":  "بما أن المدن والدول قد رأت طريقًا مغريًا لتحقيق الأرباح، أصبحت تتنافس بشدة على شرف استضافة الألعاب". وأضاف: "أصبح التنافس على استضافة الألعاب تقريبًا بنفس شدة التنافس الرياضي نفسه".

في محاولة لاستضافة الألعاب الأولمبية، أنفقت بعض المدن أكثر من 100 مليون دولار على عملية تقديم العروض فقط. وبمجرد حصولها على تلك العروض، غالبًا ما ترتفع التكاليف بشكل كبير عن ما كان مقدرًا ومخططًا له.

خدعة الربح في وقت آخر

وعوضًا عن أن تكون تجربة لوس آنجلس القاعدة الجديدة في عالم الأولمبياد باتت هي الاستثناء في قاعدة الخسائر وعجز ميزان تكاليف الاستضافة وعوائدها. لذلك باتت الزاوية الترويجية للحدث مختلفة وهي الحديث عن المكاسب بعيدة الأمد للاستضافة مثل القوة الناعمة وتنشيط السياحة وتسليط الضوء على المدينة المستضيفة بما يدر لها أرباحًا تغطي الخسائر الفورية التي يتم احصائها فور انتهاء الدورة الأولمبية.

قال زيمباليست، إن معظم هذه التكاليف يتم تعويضها في النهاية بالخسائر الاقتصادية القصيرة والطويلة الأجل والديون. فعلى سبيل المثال، من المحتمل أن الوقت والجهد والمال الذي يُنفق على منشأة كبيرة يعوق التجارة اليومية، ويأخذ مساحة عقارية ثمينة، ويسحب الانتباه والجهد بعيدًا عن المشاريع الضرورية للبنية التحتية، ويستنزف الموارد المستقبلية من خلال تكاليف الصيانة المستمرة أو مدفوعات خدمة الديون - بما في ذلك "الفيلة البيضاء" التي تُستخدم بشكل غير منتظم أو تُترك للتلف.

تشمل التأثيرات القصيرة والطويلة الأجل أيضًا تكاليف غير مرئية مثل تهجير السكان (غالبًا ما يكونون من ذوي الدخل المنخفض)، والزيادة في تكاليف السكن، والأضرار البيئية المحتملة، وفقًا لزيمباليست.

قال زيمباليست لـ CNN: "يمكنك أن تجادل بأن الأمر قد يكون مجديًا ماليًا - ليس بالطريقة التي ستغير بها المدينة اقتصاديًا، مثل الادعاءات التي تُقال غالبًا، 'إنك تضع مدينتك على الخريطة العالمية' و'ستحصل على كل هذا السياحة والأعمال والاستثمار'. تلك الأنواع من الادعاءات مبالغ فيها وغير دقيقة".

وأضاف: "المطالبات الأكثر بساطة ووضوحًا، 'ربما سنتعادل' أو 'ربما سيكون لدينا فائض صغير'، و'ربما سيكون لدينا منشأة جديدة ستستخدمها المجتمع' ... إذا تم التخطيط بشكل صحيح، وكانت المدينة بالفعل ناضجة ومتطورة، فمن الممكن أن يحدث ذلك."

يتعلق الأمر أيضًا بـ"التأثير الصافي"، كما قالت أماندا فالين، أستاذة مشاركة متخصصة في الأعمال الدولية والاقتصاد في كلية إدارة الأعمال بجامعة فلوريدا.

وأضافت: "على الرغم من أن الأحداث الرياضية، بما في ذلك الألعاب الأولمبية، تجذب الكثير من الناس، فإن هناك أيضًا الكثير من الأشخاص الذين سيتجنبون زيارة هناك بسبب الحدث".

بسبب هذا التهجير، ينتهي الأثر الاقتصادي للسياحة الرياضية عمومًا بالتعادل، كما قالت.

السياحة والفوائد طويلة الأجل

أحيانًا، تتطلب فوائد السياحة طويلة الأجل استثمارات إضافية كبيرة بعد إطفاء الشعلة الأولمبية. وأشارت فالين إلى بحيرة بلاسيد في نيويورك كمثال رئيسي: منذ استضافة الألعاب الأولمبية الشتوية عام 1980، ضخت بحيرة بلاسيد مئات الملايين من الدولارات في منشآتها الأولمبية كوجهة سياحية وتجارية.

وقالت فالين: "جاءتني هذه الفكرة الغبية، ربما تكون خاطئة لأنني لست فيزيائية، ولكنني سأطلق عليها القانون الأول للاستثمار لنيتون، وهو أن المشروع الذي يسحب الأموال يميل إلى البقاء ممولًا ما لم يتم التأثير عليه بقوة غير متوازنة". وتابعت: "بمعنى آخر، بمجرد أن تنفق خمس أو عشر سنوات أو أكثر على مبادرة ضخمة تحظى بدعم سياسي أو اهتمام خاص كبير، يصبح من الصعب للغاية إيقاف تدفق التمويل".

قالت سلطة تطوير المناطق الأولمبية في بحيرة بلاسيد لـ CNN إن الأماكن الأولمبية في تلك المنطقة تواصل جذب السياحة، واستضافة الأحداث الرياضية الكبرى (بما في ذلك بطولات العالم للدراجات الهوائية والرياضات الشتوية)، وتطوير الرياضيين المستقبليين، وتحقيق أثر اقتصادي سنوي قدره 341.8 مليون دولار، وفقًا لدراسة حديثة أجرتها Tourism Economics.

وأشاد منظمو الألعاب الأولمبية في باريس أيضًا بجهودهم لتقليل البصمة الكربونية للألعاب، بالاعتماد على السلع المنخفضة التأثير أو المعاد تدويرها كلما كان ذلك ممكنًا - مثل الأثاث المصنوع من الريشات المستخدمة في كرة الريشة - وتحديد حياة ثانية للهياكل والمعدات المؤقتة المستخدمة في الألعاب.

بالإضافة إلى ذلك، سيتم تحويل القرية الأولمبية في باريس إلى مكاتب وإسكان في حي فقير تاريخيًا. ومع ذلك، أثارت جهود إعادة التطوير هذه مخاوف بشأن تهجير آلاف الأشخاص والتأثيرات السلبية على السكن.


large image
الندوات و الدورات القادمة
large image